إذا ما عدنا بالذاكرة إلى يوم رأس السنة الجديدة 2020، فسنجد أن قلة فقط من الناس هم من كان بإمكانهم التنبؤ بأن ما سيتصدر عناوين الأخبار العالمية بعد أسابيع قليلة فقط لن يكون سوى مأساة مدمرة ذات طبيعة مختلفة تمامًا: الفيروس الذي تغلغل في جميع أقطاب العالم ليحدث انقلابًا في حياتنا لدرجة أن البعض بات يرى أن الحياة لن تعود إلى كما كانت عليه مرة أخرى.

كتبه فادى جميل، نائب الرئيس ونائب رئيس مجلس إدارة العمليات الدولية لشركة عبد اللطيف جميل

لا شك في أن فيروس كورونا المستجد (الذي يسبب أمراض الجهاز التنفسي، والمعروف اختصارًا باسم “كوفيد-19”) قد أحدث اضطرابًا متسارعًا وغير مسبوق في كافة أنحاء العالم الحديث وهيمن منذ ذلك الحين على عناوين الأخبار ووسائل الإعلام، لكنه أعاد أيضًا فتح النقاشات المتأججة منذ فترة طويلة حول البشرية وعلاقتنا بالكوكب والطبيعة.

كما أن النتائج التي خلفها الوباء جعلت الدفاع عن وجهة النظر القائلة بأننا مجرد ركاب في الدورات الإيقاعية لكوكب الأرض أمرًا بالغ الصعوبة، ذلك أن الوباء الحالي يؤكد وبصورة تكاد تكون قاطعة أننا نحن البشر أكبر محفز للعديد من التغييرات البيئية التي نشهدها. في الواقع، إذا كانت هناك أي دورس يمكن استخلاصها من هذا الفيروس التاجي، فتكمن في أن منع تكرار هذا التفشي الكارثي سيتطلب منا التفكير بطرق مختلفة تمامًا.

وليس الآن هو الوقت المناسب للتغافل عن قضية الأضرار البيئية التي لطالما أرقت العالم، بل لابد من جعلها في صدارة اهتماماتنا ومحور تركيز لنا جميعًا وصولًا إلى الإقرار بأن الحضارة والطبيعة تشتركان في نفس النظام البيئي المعقد والحساس، وأن جيلنا هو الجيل المعني – أكثر من أي جيل آخر – بتحديد مصير أبنائنا وأبناء أبنائنا.

الحقوق محفوظة لـ “ستاتكلي كارتون” على انستجرام

 

توقيت غير مناسب للمناقشات الجانبية حول تغير المناخ

في أبريل 2020، صرح جلين بيترز، مدير مركز البحوث المناخية الدولية ( CICERO ) في أوسلو، بأن مكافحة الفيروس التاجي من المرجح أن “توقف” أي تقدم تم إحرازه على صعيد مكافحة تغير المناخ.

وقال: “على الأرجح أن قضية تغيّر المناخ لن تكون ضمن الموضوعات المدرجة على طاولة مناقشات السياسات الدولية خلال الأشهر 6-12 المقبلة، حيث سينصب التركيز بشكل أساسي على الفيروس التاجي والانتعاش الاقتصادي[1]

وسيكون من السهل جدًا تبرير ذلك التجاهل، فها نحن بعد بضعة أشهر فقط من خضوع نصف سكان العالم لتدابير الإغلاق، نرى كيف أن الطبيعة الأم وهي تتعافى سريعًا من جروحها.

ولقد سمعنا جميعًا قصصًا مختلفة ورأينا صورًا عديدة تعرفنا من خلالها كيف باتت المياه المتدفقة عبر القنوات المائية في مدينة البندقية صافية صفاء الشمس، وكيف اختفى الضباب الدخاني من دلهي إلى بكين؛ وكيف تمكنت الأسماك والطيور من استعادت المجاري المائية ومسارات الطيران التي اضطرت إلى التخلي عنها سابقًا بسبب التلوث.

انخفاض الانبعاثات في الصين. المصدر: رويترز جرافيكس، بناءً على بيانات وكالة ناسا.

في وقت كتابة هذا التقرير، انخفضت حركة النقل الجوي العالمية بنسبة الثلثين عن مستويات ما قبل الأزمة، وانخفضت مبيعات البنزين في الولايات المتحدة بمقدار النصف تقريبًا[2]، وتشير التقديرات إلى انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون هذا العام بنحو 7.5٪[3]، فيما تقلصت الانبعاثات اليومية في الاتحاد الأوروبي بنسبة 58٪ تقريبًا[4]. وفي المملكة المتحدة، تشهد لندن انخفاضًا بنسبة 36٪ في مستويات ثاني أكسيد النيتروجين مقارنة بالمعدل المحسوب على مدى خمس سنوات لهذا الموسم[5].

أدت تدابير الإغلاق إلى تغيير واضح في جودة الهواء في الهند. المصدر: رويترز

 

وهذا بالتأكيد يتطلب منا النظر بشكل أبسط بكثير مما توقعنا إلى ما ارتكبناه من أخطاء بيئية طيلة عقود مضت.

وكل ما علينا فعله هو، حرفياً، أن نرفع قدمنا عن دواسات الوقود لفترة قصيرة لنرى كيف يستعيد الكوكب توازنه البيئي بطريقة أقل ما يُقال عنها أنها سحرية!

لكن يبقى أن تعليق أنشطتنا الحياتية، على غرار ما حدث إبان الجائحة، سيكلف الاقتصاد العالمي ما يصل إلى 8.8 تريليون دولار أمريكي[6]، لا سيما وأن كارثة انخفاض الناتج المحلي الإجمالي وتزايد الديون قد طالت جميع الدول تقريبًا. ومن المتوقع أيضًا أن يطال التأثير السلبي وتراجع الإيرادات كلا من الميزانيات الحكومية وحتى حسابات التوفير الفردية. وفي ظل هذه الظروف التي وضعت كثيرًا من القيود على الحريات الشخصية، واضطر معها معظم الناس إلى البقاء في منازلهم وعدم الخروج إلى العمل، معتمدين غالبًا على الإعانات الحكومية، بات حلم البشر مقتصرًا على بلوغ عالم ما بعد الفيروس ليتسنى لهم العودة إلى حياتهم السابقة.

وهنا تكمن المشكلة.

فالحياة في ظل ظروف يحيط بها الخوف والخمول ليست خيارًا أكثر استساغة من حياة قائمة على صناعات باعثة لمختلف أشكال التلوث. وبمجرد عودة الحياة إلى طبيعتها المعهودة، قد لا يستغرق الأمر وقتًا طويلاً لكسر موجة التعافي البيئي السريع (والعرضي تمامًا).

تشير صحيفة الـ “إندبندنت” البريطانية إلى أن الانخفاض في انبعاثات الغازات الدفيئة بعد الأزمة المالية العالمية لعام 2008، لم يدم طويلًا، بل أنه قفز إلى 5.1٪ بعد تعافي الاقتصاد في ذلك الوقت[7]. ونقلت الصحيفة عن عالمة المناخ كورين لو كيري، الأستاذة بجامعة إيست أنجليا، قولها إن تراجع التلوث بسبب الفيروس التاجي لا يُعزى إلى حدوث تغيرات هيكلية، وأضافت قائلةً: “بمجرد انتهاء فترة الحجر، أتوقع أن تعود الانبعاثات إلى ما كانت عليه”.

وحتى لو حدثت معجزة ما وأبقت التلوث عند هذا المستوى المنخفض نسبيًا، فلن يكون هذا كافيًا!.

يشير تقرير فجوة الانبعاثات (Emissions Gap Report) لعام 2019 الصادر عن الأمم المتحدة إلى ضرورة تخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 7.6٪ سنويًا على الأقل للحد من الإحترار العالمي المستقبلي وإبقائه عند مستوى 1.5 درجة مئوية[8]. في الآونة الأخيرة، وتحديدًا في أواخر مارس 2020، توقع مركز الأبحاث الأمريكي (The Breakthrough Institute) انخفاضًا عامًا في انبعاثات 2020 بنسبة 0.5-2.2٪ فقط – بافتراض أن النصف الثاني من العام سيشهد نوعًا من استئناف النشاط الاقتصادي[9].

وكمجتمع بشري، يجدر بنا أن نعيد تشكيل استجابتنا للتهديدات الفيروسية وتغير المناخ بنفس القدر من الأهمية – لا سيما بعد ما تبين أن الجانبين لا ينفصلان عن بعضهما البعض.

فتح العيون والعقول على بلاء لا مفر منه

تتسم النظم البيئية، إذا ما تُركت لتعمل من تلقاء نفسها، بكونها أنظمة متنوعة ذاتية التنظيم، إذا يحول التنوع البيولوجي الجيني الطبيعي دون اكتساب مسببات الأمراض موطئ قدم والانتشار بسرعة بين السكان وعبر فصائل الكائنات المختلفة. لكن ما دأبت عليه البشرية من “تدخلات” في النظم البيئية الطبيعية لمصلحة الزراعة الأحادية أو ما يُعرف بزراعة المحصول الواحد، قد تسبب في تقليل التنوع البيولوجي في ما تصفه الأمم المتحدة بأنه “معدل غير مسبوق”[10]، حيث أدى التماثل الجيني المتزايد في القطعان والأسراب  إلى خلق ظروف خصبة لازدهار مسببات الأمراض والكائنات المضيفة للفيروسات.

وفي هذا الصدد، يشير يوهانس فوجل، المدير العام لمعهد ليبنيز (Leibniz) لأبحاث التطور والتنوع البيولوجي، إلى أن مسببات الأمراض “تخترق حدود الأنواع لأننا نستغل الموارد الطبيعية دون احترام”.

ويستشهد فوجل بمثال الإفراط في الصيد في المياه الساحلية الأفريقية، مما يجبر المجتمعات المحلية على الاعتماد على لحوم الطرائد من أجل العيش، وهو ما يشجع على انتقال مسببات الأمراض عبر الفصائل الحيوانية المختلفة[11].

ويكفي أن نتعمق في البحث لنتبين حجم المشكلة فعليًا. مثلًا، يمكننا التمعن فيما تسببه عمليات إزالة الغابات للزراعة والأخشاب من تقليص للمساحة الفاصلة بين الناس والحيوانات، التي تضطر بدورها إلى العيش في مناطق متاخمة أكثر للأماكن التي يسكنها البشر.

وبحسب الإحصاءات، خسر العالم 1.3 مليون كيلومتر مربع من الغابات من عام 1990 إلى عام 2016[12]

يؤكد أندرو نورتون، مدير المعهد الدولي للبيئة والتنمية (IIED)، أن “تغيير استخدام الأراضي وإزالة الغابات هما المحركان العالميان الأساسيان لتدمير التنوع البيولوجي، ذلك أنهما يؤديان إلى زيادة خطر تفشي مزيد من الأوبئة عن طريق جعل البشر أكثر قربًا من تهديدات جديدة مثل الفيروسات التاجية. كما أن فقدان نوع بيولوجي واحد من شأنه أن يقلل بدوره من مرونة النظم الطبيعية والبشرية على أساس دائم[13]“.

ودعونا لا ننسى أن “الأسواق الرطبة” التي تم تحديدها كمركز للجائحة التي تضربنا اليوم (الأسواق التي تتاجر بالحيوانات البرية بالإضافة إلى الحيوانات الأليفة وحيوانات المزارع) لم تُنشئ إلا لإطعام السكان الذين بدأت أعدادهم – عالميًا – تطغى على الموارد الحالية.

مستقبل متوقع

United Nations Environment Programme Logoدق برنامج الأمم المتحدة للبيئة ناقوس الخطر في “تقرير فرونتيرز 2016” الذي أصدره قبل أربع سنوات على الأقل من ظهور فيروس كورونا المستجد الذي قلب العالم رأسًا على عقب، حيث سجل التقرير، في المتوسط، ظهور مرض معد جديد في البشر كل أربعة أشهر.

جاء في تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، الذي لم يُلتفت إليه إلا بعد فوات الأوان: “لم يسبق أن احتفظ هذا العدد الكبير من الناس بهذا الكم الكبير من الحيوانات – ولم يكن هناك من قبل فرص كثيرة لانتقال مسببات الأمراض من الحيوانات البرية والداجنة عبر البيئة الفيزيائية الحيوية لتصيب الناس بأمراض حيوانية المنشأ”[14].

وقد توصل الخبراء القائمين على التقرير بأن حوالي 75٪ من جميع الأمراض المعدية التي أصابت البشر كانت حيوانية المنشأ، بما في ذلك الأمراض التي حظيت بتغطية هيستيرية من قبل وسائل الإعلام مثل الإيبولا، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، والسارس.

واختتم الخبراء التقرير بتوقعات تشير إلى “زيادة عالمية في الأمراض الحيوانية المنشأ، وتفشي الأوبئة الحيوانية المنشأ، فضلاً عن زيادة عالمية في الأمراض المنقولة عبر التغذي على الحيوانات الحاملة للأمراض، واستمرار القلق من الأمراض الحيوانية المهملة في البلدان الفقيرة”.

لكن فشلنا، وبكل أسف، كان ذريعًا لعدم التعامل كما ينبغي مع ذلك النداء في حينه، رغم أننا مستأمنين على هذا الكوكب ونقبع على قمة هرمه الغذائي.

يوضح الشكل أدناه كيف “تتفشى” الأمراض الحيوانية المنشأ من خلال مجموعات الحيوانات الأليفة (والإنسان) عبر ناقلات الأمراض الطفيلية، على سبيل المثال البراغيث والقراد والبعوض. و كيف أن تجانس مجموعات الحيوانات الأليفة (وخاصة الماشية) وزحف الأراضي السكنية والزراعية إلى البرية يمكن من فرص انتقال مسببات الأمراض إلى البشر.

عاصفة عارمة من الزيادة السكانية والتوسع العمراني والتنقل

من الواضح أن الرؤى السابقة قد تجد لنفسها أساسًا راسخًا على أرض الواقع، لأنه على الرغم من الحديث المتكرر عن اللقاحات والعلاجات، تشير الأدلة إلى أن الفيروسات التاجية قد تبقى معنا طويلًا.

وفيما تستمر هذه الفكرة الرصينة في إلقاء ظلالها الداكنة على العام، يكاد العلماء يجمعون على استنتاج واحد: فيروس كورونا المستجد لن يكون آخر جائحة عالمية.

خلص برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن التغيرات في درجة الحرارة والرطوبة والتعاقب الطبيعي للفصول تؤثر جميعها بشكل مباشر على بقاء الميكروبات في البيئة، مما يشير إلى تفشي الفيروسات التاجية بأنواعها المختلفة بشكل دوري – وبشكل غير متوقع – مع تطور المناخ[15].

وهذا يتطلب من الدول النامية أن تتوخى أعلى درجات الحذر.

ويحذر برنامج الأمم المتحدة للبيئة كذلك من أن “التغير المناخي السريع يمثل تحديًا لأولئك الذين لديهم موارد أقل، لأنه يجعلهم أكثر عرضة للمخاطر ويضاعف خطر تعرضهم للضرر المتأتي من تفشي الأمراض الحيوانية المنشأ”.

كما تُعد وسائل النقل مساهماً رئيسياً آخر في تغير المناخ (زادت شركات الطيران من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 32٪ بين 2013 و [16]2018)، فضلًا عن دورها في زيادة الانتشار الجغرافي للأمراض بمجرد ظهورها، حيث يسافر في كل يوم ملايين الأشخاص بين بلدان مختلفة في غضون ساعات – مما يساهم في تحول الوباء إلى جائحة عالمية تضرب “كل دولة في العالم تقريبًا في غضون ثلاثة أشهر من أول حالة تم الإبلاغ عنها[17]“.

ويبدو أننا في سعينا لخلق عالم، مصمم خصيصًا لأنفسنا، جعلنا أنفسنا عن غير قصد مدينين لعدونا المجهري: الفيروس.

 لماذا يجدر بنا النظر إلى الغد ببارقة أمل، ولكن بعين حذرة

تعتقد ماكنزي وشركاه للاستشارات الإدارية العالمية أنه ينبغي أخذ المرونة البيئية في الحسبان عند صياغة أي خطة تعافي[18]. في الواقع، عندما يتعلق الأمر بمسألة ما إذا كان على العالم أن يصب تركيزه في الوقت الحالي على قضية تغير المناخ، ترى ماكينزي ببساطة أنه لا يمكننا تحمل العواقب التي قد تنجم عن القيام بأي شيء خلاف ذلك.

ففي مقالتها المنشورة في أبريل 2020 والتي تناولت فيها تغير المناخ في عالم ما بعد الوباء، تقول ماكينزي: “إن الوباء الحالي ربما يوفر لنا قدرة على التنبؤ بما يمكن أن تخلفه أزمة مناخية من تداعيات من حيث الأزمات الخارجية المتزامنة في جانب العرض والطلب وتعطل سلاسل التوريد، وتوقف آليات النقل العالمية “.

وكما هو الحال في طرق معالجة قضية التغيّر المناخي،  تتطلب مكافحة الأوبئة تحولًا عميقا في الموقف – وهذا هو ما أؤيده بشدة.

هذا يعني أن ينبغي لنا أن نتخلص من الأنظمة قصيرة المدى لصالح المرونة على المدى الطويل. وينطبق ذلك على أجهزة الرعاية الصحية وخدمات البنية التحتية وسلاسل التوريد، بل وعلى التجمعات الحضرية كذلك.

تختتم ماكينزي مقالتها بدعوتنا إلى تنسيق وتعاون عالميين حقيقيين، وتذكرنا بأنه “في تغير المناخ، كما هو الحال في الأوبئة، لا بد وأن تتجاوز تكاليف معالجة الأزمات العالمية إلى حد كبير تكاليف الوقاية منها”.

إن الاستراتيجيات الأربع نفسها التي يمكنها مواجهة المخاطر البيئية ستساعدنا أيضًا في معركتنا ضد الأوبئة المستقبلية:

  • تقصير سلاسل التوريد وتوطينها
  • استبدال البروتينات الحيوانية بالبروتينات النباتية
  • تحسين أنماط الاستهلاك
  • تقليل التلوث

ويمكننا أن نلحظ مدى التقارب الوثيق بين الأوبئة والبيئة عندما يتعلق الأمر بإدارة هذه التحولات وتجنب الانهيار الاقتصادي، ذلك أن استراتيجيات مكافحة الفيروسات التاجية وتغير المناخ عادة ما تسير على نفس الخطى وتثير حلقة من ردود فعل إيجابية: إنقاذ الوظائف القديمة، وخلق فرص عمل في الصناعات الوليدة، وتعزيز تكوين رؤوس المال وزيادة المرونة الاقتصادية.

ولا بد أن نضع في اعتبارنا هنا أن انخفاض الطلب على النقل محليًا ودوليًا، والعمل على توطين سلاسل التوريد، وتعزيز الاقتصاد الأخضر الذي يمكن أن يخلق 24 مليون وظيفة جديدة على مستوى العالم بحلول عام 2030[19]، ستشكل مجتمعةً ما تسميه ماكينزي “الحوافز الأساسية لإحداث تغيير متسارع[20]“.

ومع ذلك، هناك حاجة إلى اليقظة على عدة جبهات.

يمكن أن يؤدي انخفاض أسعار النفط في أعقاب الركود الذي خلفه الفيروس التاجي إلى زيادة استخدام الوقود الأحفوري عندما تبدأ عجلات الصناعة في الدوران مرة أخرى، وعلى الأرجح سيلجأ الفقراء (والحكومات) الأكثر حاجة للسيولة النقدية إلى ترجيح الأولويات الاقتصادية على قضية المناخ إذا ما اضطروا إلى الاختيار بينهما. وقد يؤدي تقلص ثروات المستثمرين إلى تأجيل ضخ الأموال إلى المزيد من المشاريع منخفضة الكربون. وفي سيناريو آخر، قد تميل الدول إلى “الانكفاء على نفسها” مع خروج الدول منهكة من معركتها ضد الوباء.

ما يجب القيام به وليس ما يمكن القيام به

استغل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مناسبة يوم الأرض في 22 أبريل لتذكيرنا بأنه على الرغم من مأساة الوباء، يجب على العالم ألا ينسى “الأزمات البيئية الأعمق” التي تواجه الكوكب.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش

وقال: “نشهد انخفاضًا حادًا في التنوع البيولوجي، إلى درجة أن التغير المناخي قد بلغ نقطة اللاعودة، وهو ما يُحتم علينا جميعًا أن نتكاتف لحماية كوكبنا من التحديات التي يلقيها الفيروس التاجي و التغير المناخي الذي يهدد وجودنا على هذا الكوكب”، محذرًا من أن “المخاطر المناخية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في النظام المالي وأن تكون في صميم السياسات العامة “.

وبالمثل، يقول أندرو نورتون، الباحث بالمعهد الدولي للبيئة والتنمية: “مهما كان من الصعب على الحكومات التركيز على تحديات متعددة، فإن أسوأ شيء يمكن أن يحدث هو اتخاذ تدابير تؤدي إلى تقويض قضية المناخ والتنوع البيولوجي أثناء التعامل مع الوباء.[21]

لذا، ربما تم تأجيل مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ لعام 2020 في غلاسكو بسبب فيروس كورونا، لكن مبلغ الـ 50 تريليون دولار أمريكي[22] المطلوب بحسب بعض التقديرات لوقف الإحترار العالمي بحلول عام 2050، سيبقى دينًا مستحقًا على العالم وسيأتي اليوم الذي يجد نفسه فيه مضطرًا إلى دفعه.

إنجر أندرسون، مديرة برنامج الأمم المتحدة للبيئة

ومن جانب آخر، وصفت المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة إنجر أندرسون عام 2020 بأنه “عام يتعين علينا فيه إعادة صياغة علاقتنا مع الطبيعة بشكل جذري[23]“. وهذا يتطلب منا في ظل الزيادة الحتمية المتوقعة لعدد السكان إلى نحو 10 مليار، أن نعيد تقييم العلاقة بين صحة الإنسان والبيئة – وهو جهد سيشمل كل قطاع بل وكل دولة في العالم، ليتحول إلى جهد عالمي لفهم إمكانية تفشي المرض وبالتالي تقليل المخاطر على كل من الناس والطبيعة.

وإزاء هذه الحقيقة التي لا مناص منها، يطلق برنامج الأمم المتحدة للبيئة مبادرة عقد الأمم المتحدة لاستعادة النظم الإيكولوجية 2021-2030، التي تركز على فقدان واستعادة البيئات التقليدية. كما يعمل برنامج الأمم المتحدة للبيئة مع الحكومات في جميع أنحاء العالم على تنفيذ إطار عالمي للتنوع البيولوجي لما بعد عام 2020 لبلورة قضايا مثل علم الحيوان في أذهان صانعي القرار.

إن مشكلات الأوبئة وتغير المناخ لا تتعارض مع بعضها البعض بأي شكل من الأشكل، بل يعزز كل منهما الآخر من حيث الاستراتيجيات والنتائج المرجوة. ومع أننا قد لا نتمكن أبدًا من إعلان النصر النهائي على الأوبئة، لكن التعامل بنوع من المسؤولية والوعي إزاء قضية تغير المناخ سيمكننا من تحديد نطاق الضرر بشكل كبير، وتحصين مستقبلنا للتحوط من تداعيات الأزمة الحالية التي ليست سوى الأولى في دورة لا تنتهي من الأوبئة الشرسة.

منظور عالمي يساعدنا على القيادة في الخطوط الأمامية

في عبد اللطيف جميل، أدركنا منذ فترة طويلة أهمية معالجة التحدي المناخي، ولا نرى في مأساة أزمة اليوم إلا حافزًا لإعادة تنشيط التزامنا بخلق عالم أنظف ومواجهة قضايا الصحة العامة المستمرة.

وما زلنا نواصل السعي إلى نشر التزامنا بالطاقة الخضراء والمعيشة المستدامة من منطلق مسؤوليتنا البيئية والاجتماعية، التي تحتم علينا إعطاء الأولوية للطاقة النظيفة جنبًا إلى جنب مع الحد من استهلاك الموارد المحدودة في جميع أنحاء العالم.

وها هي استثماراتنا الكبيرة في الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وحلول المياه والخدمات البيئية تقف شاهدًا على انجازاتنا في 18 دولة أو نحو ذلك حيث تنشط شركة عبد اللطيف جميل للطاقة الآن. كما تبلغ سعة مجموعة مشاريعنا في قطاع الطاقة المتجددة حوالي 5 جيجا واط من الطاقة عبر مواقعنا المتعددة، مما يعوض جزءًا أكبر من التأثيرات الضارة للوقود الأحفوري سنويًا.

وإلى جانب جهودنا الداعمة في إطار مواجهة تغير المناخ، فقد أخذنا على أنفسنا التزاما عميقَا بتعزيز المعرفة والبحوث في مجال الأمراض وصحة الإنسان.

ففي عام 2019، أسست مجتمع جميل وجامعة إمبيريال كوليدج معهد عبد اللطيف جميل لمكافحة الأمراض المزمنة والأوبئة والأزمات الطارئة (J-IDEA)، (أو المعروف اختصارًا باسم “معهد جميل”)، وهو مركز أبحاث يهدف إلى التنبؤ بالأزمات الصحية العالمية والوقاية منها.

واليوم، يُعد معهد جميل مركزًا لعلماء البيانات الرائدين وعلماء الأوبئة وخبراء الإحصاء الحيوي والعاملين في مجال الإغاثة، حيث يستخدم فريق المعهد التحليلات والنمذجة لاستكشاف أسباب الأزمات الصحية والإنسانية العالمية، ولإيجاد حلول جديدة جذرية للحكومات والمؤسسات والمجتمعات.

شغل منصب أول مدير للمعهد البروفيسور نيل فيرغسون، الذي اشتهر بنموذجه لانتشار مسببات الأمراض مثل متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، وجائحة الإنفلونزا، والإيبولا، والزيكا، والسارس. ويضطلع معهد جميل بدور تكميلي آخر من خلال مساندة مختلف المبادرات الصحية العالمية في مجتمع جميل، وعيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحة (J-Clinic)، التي تم إطلاقها بالشراكة مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. تركز عيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحة على الكيفية التي يمكن بها للذكاء الاصطناعي منع واكتشاف وعلاج بعض الحالات المرضية المستعصية مثل السرطان والإنتان والخرف وغيرها من الاضطرابات العصبية.

وبعد كل شيء، يبدو أن العالم لم يستعد حتى الآن بما فيه الكفاية لمواجهة انتشار الأمراض المعدية، وكثيراً ما وقفنا موقف المتفرج وتركنا الفئات الأكثر ضعفاً يدفعون الثمن النهائي، لكن الوقت قد حان لاتخاذ موقف أكثر إيجابية بعد ما أصبحت حياة الناس، أو على الأقل سبل كسب العيش، على المحك.

إن عزيمتنا أقوى من كل هذه التحديات لأن فيروس كورونا دحض بشكل قاطع الأسطورة القائلة بأن الدول عاجزة عن التكيف مع الاحتياجات المتغيرة في العالم، لكونها بطيئة للغاية في اتخاذ الإجراءات والتدابير، وغير مهيأة لتغيير مسارها.

يقول يوهانس فوغل، المدير العام لمعهد ليبنيز لأبحاث التطور والتنوع البيولوجي[24]: “هذه الأزمة كشفت لنا حجم التردي الذي وصلنا إليه بسبب قبولنا بالحالة المتدهورة بسرعة للتنوع البيولوجي والمناخ على كوكبنا. وأنا أتفق مع ذلك تمامًا.

لقد أظهرت هذه الجائحة قدرة البشر على اتخاذ إجراءات سريعة ومتسقة عندما يكون الخطر وشيكًا، وأن التصدي لتغير المناخ وإنفاذ التدابير المتخذة ضد الاتجار غير المشروع بالحيوانات البرية لهو أمر ممكن إن أمكن استخدام الموارد الطبيعية لصالح جميع الناس. ربما نكون قد نجحنا في تسخير التقنية، لكن يبدو أن الرغبة في العمل الجماعي هي ما كنا نفتقر إليه.

أما وقد تحققت هذه الرغبة، فلا بد لنا أن ننهض في الحال لإنقاذ كوكبنا.

[1] https://www.ft.com/content/052923d2-78c2-11ea-af44-daa3def9ae03

[2] https://www.ft.com/content/052923d2-78c2-11ea-af44-daa3def9ae03

[3] https://www.eia.gov/outlooks/steo/

[4] https://www.ft.com/content/052923d2-78c2-11ea-af44-daa3def9ae03

[5] https://www.york.ac.uk/news-and-events/news/2020/research/pollutionlevelsinukcitiesdropsascoronavirusimpactsondailylifenewdatareveals/

[6] Updated Assessment of the Potential Economic Impact of COVID-19, Asian Development Bank, May 15, 2020

[7] https://www.independent.co.uk/environment/coronavirus-air-pollution-carbon-dioxide-impact-environment-climate-crisis-a9446031.html

[8] https://www.unenvironment.org/interactive/emissions-gap-report/2019/

[9] https://thebreakthrough.org/issues/energy/covid-emissions

[10] https://www.unenvironment.org/news-and-stories/story/coronaviruses-are-they-here-stay

[11] ‘Coronavirus has exposed our arrogant relationship with nature’, Johannes Vogel, Financial Times, April 9, 2020

[12] https://www.nationalgeographic.com/environment/global-warming/deforestation/

[13] https://www.iied.org/covid-19-crisis-shows-governments-can-also-act-save-nature-climate

[14] [14]https://environmentlive.unep.org/media/docs/assessments/UNEP_Frontiers_2016_report_emerging_issues_of_environmental_concern.pdf

[15] https://www.unenvironment.org/news-and-stories/story/coronaviruses-are-they-here-stay

[16] https://theicct.org/sites/default/files/publications/ICCT_CO2-commercl-aviation-2018_20190918.pdf

[17] https://www.unenvironment.org/news-and-stories/story/coronaviruses-are-they-here-stay

[18] https://www.mckinsey.com/business-functions/sustainability/our-insights/addressing-climate-change-in-a-post-pandemic-world

[19] https://www.un.org/sustainabledevelopment/blog/2019/04/green-economy-could-create-24-million-new-jobs/

[20] https://www.mckinsey.com/business-functions/sustainability/our-insights/addressing-climate-change-in-a-post-pandemic-world

[21] https://www.iied.org/coming-through-pandemic-right-way

[22] https://www.morganstanley.com/ideas/investing-in-decarbonization

[23] https://www.unenvironment.org/news-and-stories/story/coronaviruses-are-they-here-stay

[24] ‘Coronavirus has exposed our arrogant relationship with nature’, Johannes Vogel, Financial Times, April 9, 2020

تواصل معي على LinkedIn