تخيل أن لديك مجموعة كاملة من خيارات النقل في متناول يدك، بحيث يمكنك البحث والحجز والدفع لرحلتك بأكملها على الفور باستخدام تطبيق واحد لا أكثر.

يمكنك استئجار سكوترًا كهربائيًا من محل بجانب منزلك للتوجه به إلى محطة للحافلات في الوقت الذي تريده. وعندما تصل إلى نهاية مسار الحافلة، تجد بانتظارك تاكسي كهربائي ذاتي القيادة ليأخذك إلى وجهتك النهائية.

هذا هو التصور المستقبلي لما يُعرف باسم نظام “التنقل كخدمة” (MaaS) –  وهو نظام شبكي لحلول التنقل التي يمكن، حتى في عالم ما بعد فيروس كورونا المستجد، أن تغير شكل مدننا وتُحدث ثورة في العلاقة بين مجتمعنا ووسائل النقل.

ما هو التنقل كخدمة؟

ببساطة، “التنقل كخدمة” هو التكامل السلس لرحلة من الباب إلى الباب [حسب الطلب]، ويجمع بين مجموعة من وسائل النقل التي يمكن حجزها جميعًا عبر نقطة دفع واحدة – عادةً ما يكون تطبيق هاتف ذكي[1]. وركيزتاه الأساسيتان هما التكامل وإمكانية الوصول إليه، أو سهولة الاستخدام: تكامل أنواع مختلفة من النقل، والقدرة على الحجز بسهولة ودفع تكاليف رحلة كاملة دفعة واحدة وفي مكان واحد.

تتجلى الفوائد المحتملة لأنظمة “النقل كخدمة” في كونها تقلص عدد وسائل النقل المستخدمة عبر الاستغناء عما هو غير ضروري منها، مما يؤدي إلى تخفيض الانبعاثات الكربونية الناجمة عنها، وتقليل الازدحام في مدننا وشوارعنا المزدحمة أصلًا، فضلًا عن أنها توفر أقصى درجات الراحة وتتيح للمستهلكين توفير تكاليف الرحلات غير الضرورية.

ولا توجد تعاريف دقيقة لطرق النقل التي يمكن أن تكون جزءا من النظام الشامل لمفهوم “التنقل كخدمة”. في الواقع، يمكن أن يشمل ذلك كل شيء، طالما أنه يمكن ربطه بالنظام، كسيارات الأجرة والدراجات التشاركية، والمركبات ذاتية القيادة، ووسائل النقل العام، والتزود بالوقود وحتى أنظمة الدفع المختلفة.

يتمثل أحد الأهداف الرئيسية لأنظمة “التنقل كخدمة” في إزالة السيارة الخاصة – ولو بصورة جزئية –  من معادلة النقل الشخصي باعتبارها وسيلة النقل الوحيدة أو الأساسية للقيام برحلتنا. فمن الناحية التاريخية، كان من شأن التخلص من السيارات الخاصة في الماضي أن يجبر المسافر على اللجوء إلى خيارات النقل العام غير المرنة وغير المريحة التي لا تتوفر إلا على مسارات معينة وفي أوقات محددة، دون النظر بما يكفي في فكرة الترابط بين طرق النقل المختلفة، ناهيك عن مخاطر التأخير والاكتظاظ وحتى إلغاء الرحلات في بعض الأحيان.

وفي المقابل، نجد أن مفهوم “التنقل كخدمة” يهدف إلى “سد” أي ثغرات في الرحلة، والنظر إلى الرحلة باعتبارها خدمة واحدة لا يضطر معها المسافرون إلى انتظار وسائل المواصلات الأخرى لمواصلة الرحلة أو إكمال رحلتهم سيرًا على الأقدام إلى مسافات بعيدة.

تنمية سوق التنقل كخدمة

وفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة “بي اس للأبحاث” (PS Research)، من المتوقع أن تبلغ قيمة سوق “التنقل كخدمة” عالميًا أكثر من 347,6 مليار دولار أمريكي[2] بحلول عام 2024.

ومن بين محركات النمو الرئيسية هو التقدم السريع الذي يتم إحرازه عبر التقنيات الثلاث الرئيسية والضرورية لنجاح نظم “التنقل كخدمة”: الاتصالات المتنقلة، وإنترنت الأشياء (IoT)، والبيانات الضخمة.

وتُعد الأجهزة المحمولة – لا سيما الهاتف الذكي – الواجهة الأمامية لتجربة “التنقل كخدمة”، ذلك أنها تتيح للأشخاص إمكانية تخطيط الرحلة وحجزها ودفع مقابلها في جلسة واحدة، وهذا يتطلب أن تكون الشبكات اللاسلكية شديدة التطور بما يجعلها قادرة على دعم أنظمة الاتصالات المتنقلة بالشكل المطلوب.

وهذه بدورها تقودنا إلى إنترنت الأشياء: الأجهزة المادية والمركبات والأجهزة المتصلة بهذه الشبكات والتي يمكن للناس التفاعل معها عبر أجهزتهم الذكية.

والعنصر الثالث هو البيانات الضخمة. تؤدي هذه التفاعلات بين الناس والخدمات والأنظمة عبر الإنترنت إلى خلق مستودعات كبيرة من البيانات، والتي يمكن تحليلها واستخدامها لتحسين العمليات والكفاءة في تخصيص الموارد. ومع زيادة حجم البيانات بشكل كبير، يمكن استخدام التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي للحصول على رؤى ذكية يمكنها زيادة فعالية الخدمات وكفاءتها.

يتزامن الانتشار المتزايد لتقنية الهاتف المتحرك، مع نمو المجتمعات الحضرية، التي تتطلب بدورها حلولًا بديلة للتنقل. فوفقاً للأمم المتحدة[3]، يعيش 55% من سكان العالم في المدن اليوم، وهو رقم يُتوقع أن يرتفع إلى 68% بحلول عام 2050. ومن المتوقع أن يؤدي التحضر المقترن بالنمو السكاني إلى إضافة 2.5 مليار شخص آخر إلى المدن[4] على مدى العقود الثلاثة المقبلة.

إن النتيجة الطبيعية للزيادة السكانية هي زيادة الطلب على الرحلات، وهو ما يُترجم إلى مزيد من السيارات والحافلات، وما إلى ذلك، وإذا كانت هذه المركبات تعمل بالوقود الأحفوري، فهذا يعني ارتفاع معدل التلوث أيضًا. ويبدو أن العمل على إيجاد طريقة للتغلب على هذا الطلب المتنامي ومعالجة آثاره هو ما يغذي الاهتمام المتزايد بأنظمة “التنقل كخدمة”. وتشمل العوامل الأخرى طلب المستهلكين الذين اعتادوا على الحصول على ما يريدون وقتما يريدون، بدءً من طلب الطعام والسلع عبر الإنترنت إلى حجز طاولة في مطعمك المفضل. فهل تعتقد أن تجرية الانتقال من مكان إلى آخر بلمسة زر واحدة ستكون مختلفة؟

ما هي المزايا التي تجلبها أنظمة “التنقل كخدمة”؟

واحدة من الفوائد الضخمة لمفهوم “التنقل كخدمة” هي الاستدامة. فبمجرد إطلاقها، يمكن لأنظمة “التنقل كخدمة” أن تقلل من الحاجة إلى المركبات الخاصة “كثيفة الاستهلاك للبنزين”، وبالتالي فهي تساعد في تقليل كمية الكربون المنبعثة في الغلاف الجوي. ويكتسي هذا الأمر أهمية خاصة بالنظر إلى حالة الطوارئ المناخية التي استحوذت على الاهتمام الدولي على مدى العامين الماضيين والتوجه العالمي نحو تحقيق انبعاثات كربونية صفرية، فضلًا عن ارتفاع حدة العوامل المناوئة في عالم يزداد حساسية لخطر تفشي أوبئة الفيروسات.

وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، يعتبر قطاع النقل هو المساهم الأسرع نموًا في الانبعاثات الضارة بالمناخ، حيث تتسبب العوادم المتولدة من السيارات والمركبات الأخرى – بما في ذلك الكربون الأسود وثاني أكسيد النيتروجين – في مجموعة من الاضطرابات الصحية مثل أمراض الجهاز التنفسي والسكتات الدماغية والنوبات القلبية والخرف والسكري[5].

ففي الولايات المتحدة، تمثل السيارات والشاحنات ما يقرب من خُمس إجمالي الانبعاثات الكربونية في الولايات المتحدة، في حين أن قطاع النقل الأمريكي ككل، والذي يشمل السيارات والشاحنات والطائرات والقطارات والسفن والشحن، ينتج ما يقرب من 30٪ من إجمالي الانبعاثات المتسببة في الاحتباس الحراري – أي أكثر من أي قطاع آخر تقريبًا[6]. وفي المملكة المتحدة، تشير التقديرات إلى أن تلوث الهواء يتسبب في وفاة ما يقدر بنحو 40,000 حالة وفاة مبكرة كل عام[7].

ومع تفاوت البيانات من مصادر مختلفة، يعتقد العديد من العلماء أنه إذا ما واصلنا تلويث الغلاف الجوي بالمعدلات الحالية، فيمكننا أن نتوقع ارتفاعًا في درجات الحرارة العالمية يصل إلى عدة درجات بنهاية القرن، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة. كما أن تضاؤل إمدادات الوقود الأحفوري، مع نفاد النفط والغاز في أقل من 50 عامًا، يجعل اللجوء إلى مفهوم “التنقل كخدمة” أكثر إلحاحًا[8].

وقد باتت الرغبة في الحد من الازدحام والتلوث عنصرًا أساسيًا في كيفية صياغة المدن الكبرى لسياساتها في مجال النقل. على سبيل المثال، يعتزم رؤساء بلديات باريس ومدريد ومكسيكو سيتي وأثينا[9] حظر مركبات الديزل الأكثر تلويثًا للبيئة من مدنهم بحلول عام 2025.

بينما أنشأت مدينتا بريمن وهامبورغ الألمانيتان “مراكز نقل” تجمع بين وسائط نقل متعددة في مكان واحد. وتبين لاحقًا من تحليل تأثيرها أن سيارات بريمن الـ290[10] التي تعمل بنظام النقل التشاركي قد أسهمت بالفعل في إبعاد ما يصل إلى 4200 سيارة خاصة من طرق المدينة.

ولا يقتصر الأمر على التأثير على كوكب الأرض فحسب، بل أيضًا على الوفورات المالية المحتملة والمتصلة بالمناخ في كل بلد على حداه. على سبيل المثال، تقدر تكلفة الازدحام وحده في أوروبا بحوالي 130 مليار يورو سنويًا[11]، أو ما يزيد قليلاً عن 1٪ من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي. ومن خلال إبعاد عدد كبير من المركبات الخاصة عن الطرق العامة، يمكن أن يساعد مفهوم “التنقل كخدمة” في تقليل الازدحام والتكاليف المرتبطة به. وبطبيعة الحال، سيُؤدي إزالة آلاف السيارات من على طرقنا إلى إحداث تأثير كبير على عائدات الضرائب الحكومية. فوفقًا للرابطة الأوروبية لمصنعي السيارات (ACEA)، تمثل السيارات 440.4 مليار يورو من الوعاء الضريبي في الأسواق الأوروبية الرئيسية. ومع ذلك، من المتوقع أن تعوض الفوائد الشاملة التي تعود من نظام “التنقل كخدمة”- المالية والبيئية والصحية والمكانية وحتى المجتمعية – أي انخفاض كبير في عائدات الضرائب.

Fady Mohammed Jameel Spotlight article portrait

وقد لا نبالغ إذا قلنا أن “التنقل كخدمة” يمكن أن يُحدث ثورة في تصميم مدننا أيضًا. لعقود من الزمان، كان تحديد الظروف التي يعيش بها الناس – وخاصة في الغرب المتمدن – يتمحور حول ملكية السيارات. بمعنى، يمكن أن يؤدي تقليل الاعتماد على السيارات الخاصة إلى إنشاء مراكز حضرية مصممة للناس، وليس المركبات، مع تخصيص المزيد من المساحات الخضراء ومساحات أكبر للمشاة. في الواقع، إن إنشاء مجتمعات جديدة تركز على رفاهة الناس بدلاً من السيارات هو أحد العوامل الرئيسية لنجاح مفهوم المدن الذكية.

وعن ذلك يقول فادي جميل، نائب الرئيس ونائب رئيس مجلس إدارة شركة عبد اللطيف جميل: “إن أنظمة “التنقل كخدمة” تبشر بمكاسب حقيقية لجميع الأطراف، فهي توفر حلول نقل سريعة ومريحة للأفراد، وتقلل من الازدحام، وتدعم إنشاء مجتمعات حضرية أكثر مراعاة للبيئة وأكثر ملاءمة للعيش، وتسهم في تحقيق اقتصادات أكثر كفاءة. فمن خلال تقليل العدد الإجمالي للمركبات على طرقنا – وبالتالي التلوث الناتج عنها – سيتسنى لنا تحقيق أهدافنا في الوصول إلى انبعاثات كربونية صفرية.”

تحديات بناء أنظمة “التنقل كخدمة”

على الرغم من مزايا أنظمة “التنقل كخدمة”، إلا أن تطويرها ما زال يسير بخطى غير منتظمة نتيجة التحديات التي تواجهها في ثلاث محاور أساسية، هي التكنولوجيا وتوجهات الجمهور والتنسيق.

بحكم طبيعته، لا يمكن أن ينشأ نظام “التنقل كخدمة” في معزل عن بقية القطاعات، بل يعتمد بالأساس على قوة ومتانة البنية التحتية التقنية القائمة. وعلى الرغم من أن التقدم التقني كان وما يزال سريعًا، لا تزال هناك فجوات كبيرة في ضمان الاتصال السلس الذي تعتمد عليه أنظمة “التنقل كخدمة”، على الأقل من حيث الموثوقية. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجرتها مؤسسة “يوسويتش” (uSwitch) لأبحاث الطاقة في المملكة المتحدة، أن 56٪ من ركاب القطارات يجدون صعوبة بالغة في الاتصال بشبكات الجيل الثالث أو الرابع التي تزود هواتفهم المحمولة بخدمة الاتصال. حتى في لندن – وهي واحدة من أكثر المدن ازدحامًا واتصالًا بالشبكات اللاسلكية في العالم – وعلى الرغم من أن شبكات الجيل الثالث والجيل الرابع والواي فاي قد تكون متاحة في معظم خطوط القطارات المسيرة فوق الأرض، إلا أن الاتصالات يمكن أن تكون بطيئة بل وغير متوفرة تماماً في كثير من الأحيان في قطارات الأنفاق[12].

 

ولا تختلف الصورة كثيرًا عندما يتعلق الأمر باستخدام التقنية في الدفع مقابل الخدمات. ففي حين أن الشباب هم الفئة الأكثر انفتاحًا على حجز الخدمات ودفع مقابلها عبر هواتفهم المحمولة، نجد أن أجيال ما قبل الألفية بشكل عام، لا تميل إلى استخدام هذا الخيار. ففي استطلاع للمدفوعات الرقمية أجرته شركة فيزا (Visa)[14] في عام 2018، قال 65٪ من جيل الألفية إنهم دفعوا ثمن المنتجات أو الخدمات عبر الهواتف المحمولة، مقارنة بـ 42٪ فقط من عموم السكان.

ولعل العقبة الأكبر التي تواجه اعتماد مفهوم “التنقل كخدمة” على نطاق واسع هو التحدي المتمثل في التنسيق والتنظيم. فبدون توفر الدعم أو التسهيلات أو التنسيق الحكومي على المستوى الوطني والإقليمي والمحلي، سيكون من الصعب على أي حل يطرحه القطاع الخاص ضمن نظام “التنقل كخدمة” أن يكتسب الزخم الضروري للنمو والتوسع. غالبًا ما تميل المؤسسات الخاصة – بحكم طبيعتها – إلى العمل في عزلة والتعامل بريبة إزاء تبادل التقنية، ناهيك عن مخاوفها من الوقوع في انتهاكات لقوانين حماية البيانات عند تمرير معلومات الركاب والعملاء.

كانت هذه بعض النتائج التي توصل إليها معهد الهندسة والتقنية في المملكة المتحدة، والذي نشر لاحقًا تقريرًا حول نظام “التنقل كخدمة” جاء فيه[15] أن العديد من النماذج التجارية الحالية المستخدمة في توفير حلول النقل تدفع إلى “سلوكيات غير مفيدة وخدمات منعزلة ومواقف حمائية”.

قد تكون العوامل التنظيمية أيضًا مشكلة في بعض الأسواق. بمعنى، لكي يتمكن مقدمو خدمات “التنقل كخدمة” من إدارة عملياتهم بفعالية، فسيكون من الضروري بالنسبة لهم جمع كميات هائلة من بيانات المستخدمين والاحتفاظ بها، بدءً من المعلومات المالية والشخصية ووصولًا إلى ببيانات الموقع، ووتيرة السفر، وطرق الدفع، ووسائل النقل. كما أنهم يحتاجون أيضًا إلى جمع البيانات المتعلقة بالبنى التحتية المستخدمة مثل مواقف السيارات وظروف الطرق ونقاط شحن المركبات الكهربائية ومستويات الازدحام. وهذه كمية ضخمة من البيانات يصعب على أية شركة إدارتها بشكل فعال والأهم من ذلك، بشكل آمن، لا سيما في الأسواق التي تطبق لوائح صارمة بشأن خصوصية البيانات، مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) للاتحاد الأوروبي، والتي كانت في حد ذاتها نتاجًا للزخم السياسي المؤيد لحماية خصوصية المستهلكين بعد سلسلة من الانتهاكات لأمن البيانات من قبل منصات وسائل التواصل الاجتماعي الرئيسية، وغيرها. وبالنظر إلى أن حالات الفشل في تأمين البيانات لا تزال تظهر بشكل منتظم في وسائل التواصل، فقد يكون الحصول على إذن من المستهلك لجمع ومعالجة مثل هذه الكميات الكبيرة من البيانات الشخصية أمرًا صعبًا.

رواد “التنقل كخدمة” يتقدمون المسيرة

ومع كل ما تقدم، فإن هذه التحديات ليست مستعصية على الحل، وهو ما أثبته عدد قليل من الدول الرائدة.

تتقدم كلًا من فنلندا وسنغافورة مسيرة التطوير من خلال مزيج من ثقافة الابتكار – والأهم من ذلك – رغبة السلطات العامة لكل منهما في تبني مفهوم “التنقل كخدمة”.

تقوم عاصمة فنلندا، هلسنكي، بتجربة نظام “التنقل كخدمة” عبر تطبيق تنقل يسمى “Whim”[16]، وهو يتيح لمستخدميه تخطيط رحلاتهم ودفع مقابلها عبر جميع وسائل النقل، حيث يمكنهم حجز الدراجات والدراجات الإلكترونية وسيارات الأجرة ووسائل النقل العام واستئجار السيارات عند الطلب داخل المدينة. وقد ساهم دعم السلطات المحلية في نجاح تجربة هلسنكي وانتشاره على نطاق واسع بين سكان المدينة. على سبيل المثال، قام مكتب حركة المرور وتخطيط الشوارع في هلسنكي بتوفير أماكن لوقوف المركبات بالقرب من المناطق التي يرغب المخططون فيها من المسافرين التحول إلى طرق النقل البديلة[17].

حتى أن هناك قانونًا جديدًا تم سنه لهذا الغرض، يعرف باسم قانون النقل[18]، والذي يفرض على شركات النقل إتاحة خيارات التذاكر وبياناتها لأطراف ثالثة. وتتطلب اللوائح أيضًا تبسيط عمليات الدفع إلى حد أنه يمكن استخدام تذكرة صادرة من شركة معينة في وسيلة نقل تابعة لشركة أخرى.

ولا بد أن نذكر هنا تجربة سنغافورة باعتبارها من المدن الرائدة في تطوير أنظمة “التنقل كخدمة”. على سبيل المثال، تتعاون شركة ناشئة تُدعى “موبيلتي إكس” (MobilityX) مع جامعة نانيانغ التكنولوجية (NTU) وشركة “جي تي سي” (JTC)، لتعميم نظام “التنقل كخدمة” في المدينة اعتمادًا على تطبيقيّن: “جالان” (Jalan) و” جالان إكس” (JalanX). يعتمد تطبيق جالان (وهي كلمة تعني في لغة البهاسا “السير إلى الأمام” أو “المرور” أو حتى “طريق”) على إنشاء نوع من التكامل بين شبكات القطارات والحافلات، بما في ذلك الجيل التالي من التقنية مثل أنظمة النقل التشاركي عبر الدراجات والدراجات البخارية الإلكترونية، في حين يوفر “جالان إكس” خدمة النقل عند الطلب عبر الحافلات من حرم جامعة نانيانغ ومجمع جي تي سي للشركات التقنية.

وبالإضافة إلى ضرورة تطوير التقنية، يرى الفريق الذي يقف وراء العمل أن التصميم الحضري يشكل عنصرًا حيويًا لأنظمة “التنقل كخدمة”. على سبيل المثال، كانت إحدى الأفكار المطروحة هي بناء مواقف للسيارات في المداخل الرئيسية للجامعة، بحيث يمكن للزوار ترك سياراتهم واستخدام وسائل النقل الأخرى للوصول إلى الحرم الجامعي المترامي الأطراف.

وكما هو الحال في هلسنكي، كان دعم القطاع العام، المتمثل في هيئة النقل البري في سنغافورة، حاسمًا في إطلاق نظام “التنقل كخدمة”. تعكف هيئة النقل البري في سنغافورة بالفعل على تطوير شبكات من المسارات المترابطة في مناطق الإسكان العامة وإعادة تصميم الطرق لتكون أكثر ملاءمة للمشاة والدراجات، مما يساعد على إرساء الأرضية التي يمكن فيها لشبكة نقل متكاملة تعتمد على مفهوم “التنقل كخدمة” أن تنمو وتزدهر.

وتتخذ اليابان كذلك خطوات إيجابية نحو اعتماد مفهوم “التنقل كخدمة”، فقد أدخلت مدينتا كيتاكيوشو وفوكوكا نظام “التنقل كخدمة”، بالتعاون مع شركة تويوتا الرائدة في مجال السيارات الهجينة/الكهربائية، وشركة النقل العام نيشي نيبون للسكك الحديدية (Nishitetsu)، وعدد من الشركاء المحليين.

يتضمن تطبيق “طريقي” (My Route) الذي يتبنى مفهوم “التنقل كخدمة”، ثلاثة مكونات رئيسية:

  • البحث عن طرق متعددة الوسائط، بما في ذلك النقل العام (مثل الحافلات والسكك الحديدية ومترو الأنفاق) والسيارات (مثل سيارات الأجرة وتأجير السيارات ومشاركة السيارات والمركبات الخاصة) والدراجات والمشي
  • الحجوزات والمدفوعات
  • البحث عن معلومات المتاجر والفعاليات

تم تنزيل تطبيق تطبيق “طريقي” (My Route) أكثر من 300,000 مرة خلال تجربة استمرت لمدة عام، وبمعدلات رضا بلغت حوالي 80٪، مما دفع القائمين عليه إلى إطلاقه للاستخدام الدائم في نوفمبر 2019.

وتتماشى هذه الشراكة مع الاستراتيجية الرسمية التي أطلقتها تويوتا تحت اسم “النقل الشبكي والتنقل كخدمة”، والتي ستشهد دمج منصتها لخدمة التنقل في جميع سياراتها الجديدة في اليابان والولايات المتحدة والصين بحلول نهاية عام 2020 [19]، مستفيدةً من البيانات الضخمة لدفع الابتكار داخل تويوتا، وآليات الربط مع الشركاء الخارجيين لإنشاء خدمات تنقل جديدة.

في يوليو 2019، أبرمت تويوتا اتفاقية مع شركة خدمات النقل التشاركي “ديدي تشوشينج” (Didi Chuxing) لتوسيع نطاق تعاونهما في قطاع “التنقل كخدمة” في الصين[20]. وبموجب هذه الاتفاقية، ستستثمر تويوتا 600 مليون دولار أمريكي في “ديدي” وستنشئ مشروعًا مشتركًا لخدمات المركبات المشاركة في نظام النقل حسب الطلب.

جاءت العلاقة مع “ديدي” بعد أكثر بقليل من عام على دخول تويوتا في صفقة مماثلة مع شركة “جريب” (Grab)[21] السنغافورية لخدمات الركوب، لتعزيز شراكتها القائمة والنهوض بقطاع “التنقل كخدمة” في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا.

دور واعد للسيارات الكهربائية

ينظر الكثير من الخبراء إلى المركبات الكهربائية والمستقلة باعتبارها اثنين من خيارات تقنيات التنقل سريعة التطور التي يمكن أن تساعد في تشجيع الناس على التخلي عن المركبات كثيفة الاستهلاك للبنزين وتبني مفهوم “التنقل كخدمة” بدلا عنها. وفي ظل التوقعات بأن تكون سيارات الأجرة ومركبات الركوب التشاركي مكونات رئيسية لمعظم أنظمة “التنقل كخدمة”، فإنها ستحتاج إلى أن تكون كهربائية ــ ويفضل أن تكون ذاتية القيادة ــ كي لا تؤدي إلى تقويض الغرض الذي صُمم من أجله المسعى بأكمله ولو جزئياً.

يمكن أن يكون للتطورات الأخيرة في تقنيات البطاريات تأثير كبير على أداء وتصورات المركبات الكهربائية، والتي ستعود قطعًا بالنفع على أنظمة “التنقل كخدمة” أكثر من غيرها.

على سبيل المثال، يبلغ مدى سير مركبة كورسا-إي الجديدة من جنرال موتورز  209 أميال[22]، وهي مسافة طويلة بما يكفي للقيادة بين لندن ومانشستر بشحنة واحدة. في حين يبلغ مدى سيارة “اس لونج رانج بلاس” من تيسلا 390 ميلًا[23] – وهو مسافة تكفي للقيادة من مانهاتن إلى مونتريال، أو أبوظبي إلى مسقط.

واحدة من الشركات الرائدة أيضًا في هذا السوق هي “ريفيان” (RIVIAN)، وهي شركة سريعة النمو متخصصة في حلول النقل وصناعة المركبات الكهربائية ومقرها الولايات المتحدة، وتُعد شركة عبد اللطيف جميل من أبرز المستثمرين فيها. ومن المقرر أن يبدأ إنتاج أول طرازين من “ريفيان”، وهما عبارة عن شاحنة كهربائية صغيرة وسيارة رياضية متعددة الأغراض، في عام 2020. وتصنف هاتين المركبتيّن – “آر 1 تي” (R1T) و “آر 1 اس” (R1S) على التوالي – كمركبات ذاتية القيادة من “الجيل 3″، ما يعني أن السائقين سيكون بإمكانهم القيام بمهام أخرى أثناء القيادة دون حاجة إلى الانتباه إلى الطريق طيلة الوقت.

وثمة تجربة أخرى رائدة تقودها شركة “نيو” (NIO) الصينية، التي تأسست في عام 2014، وتتخصص في صناعة المركبات الكهربائية المستقلة. ففي عام 2016، مُنحت الشركة ترخيصًا لاختبار مركباتها ذاتية القيادة على الطرق العامة في كاليفورنيا.

وفي الوقت نفسه، تستهدف شركة لينك وشركاه (Lynk & Co)، وهي ائتلاف صيني سويدي تأسس في عام 2016، جذب المشترين الأصغر سنًا على وجه التحديد لشراء طرازها الجديد من السيارات الكهربائية، والذي تقول أنه يتميز بقدرة عالية على الاتصال بالإنترنت وخيارات تخصيص واسعة النطاق. وفي عام 2018، سجلت الشركة مبيعات فاقت 120,000 مركبة في الصين.

ويُعول الخبراء على قدرة المركبات ذاتية القيادة في المساعدة أيضًا على الحد من مشكلة الازدحام في وسط المدن. فمن الناحية النظرية، ستكون قادرة على توصيل الركاب من منازلهم، على سبيل المثال، إلى مقر العمل أو مكان عام بوسط المدينة، لتتوجه بعد ذلك إلى خارج المدينة إما للوقوف في مواقف السيارات خارج المناطق المزدحمة في وسط المدينة، أو لالتقاط راكب آخر.

وهناك حتى إمكانية لطرح مزيد من الأفكار المستقبلية في مزيج “التنقل كخدمة” في ظل التطورات المستمرة التي تشهدها تكنولوجيا النقل.

التاكسي الجوي الكهربائي لشركة جوبي للطيران، على سبيل المثال، هو مركبة تجريبية خماسية المقاعد قادرة على الطيران بسرعة 320 كيلومترًا في الساعة ويمكنها السير لمسافة 240 كيلومترًا بشحنة واحدة. وقد أكملت الشركة جولة التمويل الأخيرة بقيمة 590 مليون دولار أمريكي في يناير 2020، وكان من بينها استثمارات من شركة تويوتا موتور كوربوريشن والذراع الاستثماري لعبد اللطيف جميل.

ستستخدم خدمة التاكسي الجوي طائرات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية (eVTOL) المطورة من جوبي، وستستفيد جزئيًا من خبرة تويوتا في تصنيع سيارات. ونظرًا لأنها تعمل بمحركً كهربائي وتصميم متعدد الدوار، تقول شركة جوبي للطيران أن “إيفتول” (eVTOL) “أكثر هدوءًا 100 مرة من الطائرات التقليدية أثناء الإقلاع والهبوط، وشبه صامتة في وضع التحليق في الأجواء.”

هذه الفوائد تجعل طائرة “إيفتول” (eVTOL) ضمن المرشحين الأساسيين لشبكات النقل الجوي الحضري المدعومة بنظام “التنقل كخدمة”. وبالإضافة إلى جوبي، تعمل أيضًا عدد من الشركات، بما في ذلك شركة إيرباص[24] وشركة “إيهاج”[25] (EHang) الصينية، على تطوير هذه التقنية كخيار واعد لنقل الأشخاص والبضائع لمسافات قصيرة داخل المدن.

كيف أثرت الجائحة الأخيرة على قطاع التنقل

قليلة هي القطاعات أو الفئات المجتمعية التي لم تتأثر بالأزمة العالمية التي خلفتها جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، وبطبيعة الحال لم يكن قطاع التنقل استثناءً من ذلك. ربما يكون تأثير إرشادات التباعد الاجتماعي هو العامل الأكثر وضوحًا. وما من شك في أن معالجة الشواغل المتعلقة بالتباعد الاجتماعي والجوانب العملية لتفعيل تدابيره قد شكلت تحديات رئيسية لجميع أشكال النقل، وليس فقط لأنظمة “التنقل كخدمة”، ذلك أنه من المرجح أن ينجذب الناس مرة أخرى وعلى المدى القصير نحو المركبات الخاصة باعتبارها الطريقة الأسهل للحفاظ على سلامتهم. بينما على المدى الطويل، ومع بدء عودة “الحياة إلى طبيعتها”، يمكن لنظم “التنقل كخدمة” أن تدعم بالفعل استراتيجيات النقل المستقبلية التي تتماشى مع متطلبات التباعد الاجتماعي.

على سبيل المثال، أشار تقرير حديث لشركة ماكينزي (McKinsey) حول تأثير فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) على حلول التنقل، إلى أن الأزمة يمكن أن “تؤخر تطوير التقنيات المتقدمة، مثل مركبات القيادة الذاتية، خاصة مع ميل الشركات المصنعة والمستثمرين إلى تقليص تمويل الابتكار للتركيز على قضايا إدارة النقد اليومية.” ومن حيث الرؤى المستقبلية، كشف التقرير عن أن المركبات الكهربائية وحلول النقل المصغر والتقنيات الأخرى التي تدعم فكرة التباعد المادي يمكن أن تلقى رواجًا بين المستخدمين، حيث “يمكن أن يرتفع طلب العملاء على هذه الحلول بمجرد أن تهدأ الأزمة الأولية، مما يزيد من جاذبيتها للمستثمرين”.

وخلص التقرير إلى أن “العديد من التغييرات في مزيج وسائط النقل لا تعدو كونها ظروفًا مؤقتة وأن حلول التنقل التشاركي، بما في ذلك النقل العام، سوف تنتعش وتستمر في اكتساب حصة متزايدة في السوق. كما يمكن أن يتزايد الإقبال على حلول النقل المصغر بسرعة أكبر إذا ما تم تبني إجراءات تعقيم صارمة.”

العمل على جعل “التنقل كخدمة” حقيقة واقعة

تتطور التكنولوجيا المطلوبة لدعم نظام “التنقل كخدمة” بوتيرة سريعة. كما أن تزايد شعبية خدمات سيارات الأجرة والركوب التشاركي القائمة على التطبيقات الذكية، كتلك التي تقدمها “ليفت” (Lyft) و “أوبر” (Uber) و”كريم” (Careem)، تعيد بسرعة تشكيل وجهة نظرنا حول النقل ليتحول من مفهوم يتمحور حول التملك الشخصي، إلى شيء نلتقطه ونعيده إلى مكانه حالما نقضي حاجتنا منه.

كما أن الإقبال المتزايد على استخدام تطبيقات الهاتف المحمول لإجراء عمليات الدفع من شأنه أن يسهم بقوة في إكساب أنظمة “التنقل كخدمة” نوعًا من القبول لدى المستخدمين.

بيد أن العقبة الأكبر التي ستظل تشكل عائقًا على المدى الطويل أمام مفهوم “التنقل كخدمة” هي توحيد الخدمات وزيادة التنسيق بين القطاعين العام والخاص. لكن المسار الذي اتخذته كلا من سنغافورة وهلسنكي وما قدمتاه من دعم واستثمار لهذا القطاع، يشير إلى أن مفهوم “التنقل كخدمة” لا يمثل تطلعًا طموحًا لعالم الغد فحسب، بل يمكن أن يكون حقيقة واقعة اليوم.

ولهذا تنتهج عبد اللطيف جميل نهج الاستثمار المبتكر على نطاق عالمي في سائر أنشطتها، كما هو الحال في “ريفيان” (RIVIAN) و”جوبي للطيران” (Joby Aviation)، فمن خلال استثمارها المستمر في “البنية التحتية الأساسية للحياة” في الأسواق الرئيسية حول العالم، بدءاً من النقل إلى الطاقة، ومرورًا بالتجارة الإلكترونية إلى العقارات، تلتزم عبد اللطيف جميل بدعم نهج جديد للتنقل يمكن أن يساعد في توفير مستقبل آمن بيئيًا للجميع.

[1] https://maas-alliance.eu/homepage/what-is-maas/

[2] Global mobility as a service market report 2019, PS Research, August 2019.

[3] https://www.un.org/development/desa/en/news/population/2018-revision-of-world-urbanization-prospects.html

[4] https://www.un.org/development/desa/en/news/population/2018-world-urbanization-prospects.html

[5] Gearing up for change: transport sector feels the heat over emissions

[6] https://www.ucsusa.org/clean-vehicles/car-emissions-and-global-warming

[7] Gearing up for change: transport sector feels the heat over emissions

[8] https://ourworldindata.org/how-long-before-we-run-out-of-fossil-fuels#note-6

[9] https://www.unenvironment.org/news-and-stories/story/gearing-change-transport-sector-feels-heat-over-emissions

[10] https://sharedusemobilitycenter.org/build-your-own-mobility-hub-7-lessons-for-cities-from-bremen-germany/

[11] https://www.mdpi.com/2071-1050/12/6/2200/htm

[12] https://www.uswitch.com/media-centre/2019/02/signal-failure-nine-10-rail-commuters-cut-off-connectivity-issues/

[13] https://www.coxautoinc.com/learning-center/2018-mobility-study/

[14] https://www.itproportal.com/features/digital-payments-in-2018-how-millennials-are-driving-next-gen-commerce/

[15] https://www.theiet.org/media/3666/mobility-as-a-service-report.pdf

[16] https://whimapp.com/

[17] https://urbanmobilitydaily.com/mobility-as-a service-evs-and-avs-how-helsinki-became-a-transport-trendsetter/

[18] https://www.citylab.com/perspective/2018/10/helsinkis-mobility-as-a service-app-whim-is-it-really-mobilitys-great-hope/573841/

[19] https://global.toyota/pages/global_toyota/ir/presentation/2019_q3_competitiveness_en.pdf

[20] https://global.toyota/en/newsroom/corporate/28993116.html

[21] https://global.toyota/en/newsroom/corporate/22940912.html

[22] https://www.vauxhall.co.uk/cars/new-corsa/electric.html

[23] https://www.tesla.com/blog/longest-range-electric-vehicle-now-goes-even-farther

[24] https://www.airbus.com/innovation/urban-air-mobility/vehicle-demonstrators/cityairbus.html

[25] https://www.ehang.com/ehangaav